فصل: قال ابن جزي:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



ثم أوعد المفترين بقوله: {إن الذين يفترون} الآية، وقوله: {متاع} قال الزجاج: أي متاعهم، وعن ابن عباس: أراد أن متاع كل الدنيا قليل، والمعنى أن منفعتهم فيما هم عليه من أفعال الجاهلية، أو أن نعيم الدنيا كلها يزول عنهم عما قريب ويبقى العقاب الدائم الأليم.
ثم خص محرمات اليهود بالذكر فقال: {وعلى الذين هادوا حرمنا ما قصصنا عليك من قبل} يعني في سورة الأنعام عند قوله: {وعلى الذين هادوا حرمنا كل ذي ظفر} [الأنعام: 146]. ثم قال: {وما ظلمناهم} كقوله هناك: {ذلك جزيناهم ببغيهم} [الأنعام: 146]. ثم بين أن الافتراء على الله ومخالفة أمره لا يمنعهم من التوبة وحصول المغفرة والرحمة، وقوله: {بجهالة} في موضع الحال أي عملوا السوء جاهلين غير عارفين بالله وبعقابه أو غير متأملين في وخامة عاقبته لغلبة الشهوة عليهم. {إن ربك من بعدها} من بعد تلك السيئة أو التوبة أو الجهالة، ولما بالغ في إبطال مذاهب المشركين وفي الجواب عن شبههم ومطاعنهم وكان إبراهيم صلى الله عليه وسلم رئيس الموحدين وقدوة أكابر النبيين ذكره الله تعالى في آخر هذه السورة قائلًا: {إن إبراهيم كان أمة} أي هو وحده أمة من الأمم لكماله في جميع صفات الخير:
ليس على الله بمستنكر ** أن يجمع العالم في واحد

وعن مجاهد: كان مؤمنًا وحده والناس كلهم كفار فلهذا قيل: إنه أمة، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول في زيد بن عمرو بن نفيل: يبعثه الله أمة وحده، وعن شهر بن حوشب: لم يكن زمن إلا وفيه أربعة عشر يدفع بهم الله عن أهل الأرض إلا زمن إبراهيم فإنه وحده، وقيل: أمة بمعنى مأموم أي يؤمه الناس ليأخذوا منه أفعال الخير أو بمعنى مؤتم به كقوله: {إني جاعلك للناس إمامًا} [البقرة: 124]، وقيل: إنه من باب إطلاق المسبب على السبب لأنه حصل لأمته الامتياز عمن سواهم {قانتًا لله} قائمًا بما يأمره الله، وعن ابن عباس: مطيعًا لله {حنيفًا} مائلًا إلى ملة الإسلام ميلًا لا يزول عنه، وقال ابن عباس: المراد أنه أول من اختتن وأقام مناسك الحج وضحى. {ولم يك من المشركين} قط لا في الصغر ولا في الكبر {شاكرًا لأنعمه} وإن كانت قليلة فضلًا عن النعم الكثيرة. يروى أنه كان لا يتغدّى إلا مع ضيف فلم يجد ذات يوم ضيفًا فأخلا غداءه فإذا هو بفوج من الملائكة في صورة البشر فدعاهم إلى الطعام فخيلوا له أن بهم جذامًا فقال: الآن وجبت مؤاكلتكم شكرًا لله على أنه عافاني وابتلاكم {اجتباه} اختصه واصطفاه للنبوّة {وهداه إلى صراط مستقيم} إلى ملة الإسلام {وآتيناه في الدنيا حسنة} عن قتادة: هي أن الله تعالى حببه إلى أهل الأديان كلها، وقيل: الأموال والأولاد، وقيل قول المصلي منا «كما صليت على إبراهيم وآل إبراهيم». {وإنه في الآخرة لمن الصالحين} في أعلى مقاماتهم من الجنة تحقيقًا لدعائه {وألحقني بالصالحين} [يوسف: 101].
قال في الكشاف: معنى {ثم} في قوله: {ثم أوحينا إليك} تبعيد هذا النعت من بين سائر النعوت التي أثنى الله بها على إبراهيم، ليعلم أن أجل ما أوتي خليل الله اتباع نبينا ملته في الأصول من التوحيد والمعاد وغيرهما كاختيار يوم الجمعة للفراغ وترك العمل.
قال أهل النظم: كان لسائل أن يسأل: لم اختار اليهود السبت مع أن إبراهيم كان اختار الجمعة؟ فأجاب الله سبحانه بقوله: {إنما جعل السبت على الذين اختلفوا فيه} فاختاره بعضهم للفراغ واختار بعضهم الجمعة. روى الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس أنه قال: أمرهم موسى بالجمعة وقال تفرغوا في كل سبعة أيام يومًا واحدًا فأبوا أن يقبلوا ذلك وقالوا: لا نريد إلا اليوم الذي فرغ الله فيه من الخلق وهو يوم السبت. فجعل عليهم السبت وشدد عليهم. ثم جاءهم عيسى بالجمعة أيضًا فقالت النصارى: لا نريد أن يكون عيدهم بعد عيدنا فاتخذوا الأحد، وروى أبو هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم: «إن الله كتب يوم الجمعة على من كان قبلنا فاختلفوا فيه وهدانا الله له فالناس لنا تبع اليهود غدًا والنصارى بعد غدٍ» وقال صاحب الكشاف: السبت مصدر سبت اليهود إذا عظمت سبتها، والمعنى {إنما جعل} وبال {السبت} وهو المسخ {على الذين اختلفوا فيه} واختلافهم فيه أنهم أحلوا الصيد فيه تارة وحرموه تارة، وكان الواجب عليهم أن يتفقوا في تحريمه على كلمة واحدة، وضعف القول الأول بأن اليهود متفقون على تعيين يوم السبت للفراغة، ويمكن أن يقال: لعل فيهم من اختار الجمعة في قديم الدهر ثم وقع الاختلاف. سؤال: النصارى يقولون: إن يوم الأحد مبتدأ الخلق، والتكوين على ما اتفق عليه أهل الملل أنه تعالى خلق العالم في ستة أيام أوّلها الأحد فجعله عيدًا معقول، واليهود قالت: إن يوم السبت هو اليوم الذي قد فرغ الله فيه من الأعمال فنحن نوافق ربنا. فما وجه جعل الجمعة عيدًا؟ والجواب بعد التعبد هو أن يوم الجمعة يوم التمام والكمال وذلك يوجب الفرح والسرور فجعله عيدًا أولى. ثم أوعد اليهود بقوله: {وإن ربك ليحكم} إلخ.، ولما أمر محمدًا باتباع إبراهيم صلى الله عليه وسلم بين وجه المتابعة فقال: {ادع إلى سبيل ربك} الآية، وفيه أن طريقة إبراهيم صلى الله عليه وسلم في الدعوة كانت هكذا، وتقرير ذلك أن الداعي إلى مذهب ونحلة لابد أن يكون قوله مبنيًا على حجة وهي إما أن تكون يقينية قطعية مبرأة من شائبة احتمال النقيض، وإما أن تكون مفيدة للظن القوي والإقناع التام وإلا لم يكن ملتفتًا إليها في العلوم، وقد يكون الجدال والخصام غالبًا على المدعو فيحتاج حينئذ إلى إلزامه وإفحامه بدليل مركب من مقدمات مشهورة مسلمة عند الجمهور، أو مقدمات مسلمة عند الخصم. فقوله: {بالحكمة} إشارة إلى استعمال الحجج القطعية المفيدة لليقين، والمكالمة بهذا الطريق إنما تكون مع الطالبين البالغين في الاستعداد إلى درجة الكمال.
وقوله: {والموعظة الحسنة} إشارة إلى استعمال الدلائل الإقناعية الموقعة للتصديق بمقدمات مقبولة، وأهل هذه المكالمة أقوام انحطت درجتهم عن درجة الطائفة الأولى إلا أنهم باقون على الفطرة الأصلية طاهرون عن دنس الشغب وكدورات الجدال وهم عامة الخلق، وليس للدعوة إلا هذان الطريقان، ولكن الداعي قد يضطر مع الخصم الألد إلى استعمال الحجج الملزمة المفحمة كما قلنا فلهذا السبب عطف على الدعوة قوله: {وجالهم بالتي} أي بالطريقة {التي هي أحسن} فكان طريق الجدال لم يكن سلوكه مقصودًا بالذات وإنما اضطر الداعي إليه لأجل كون الخصم مشاغبًا، وإنما استحسن هذا الطريق لكون الداعي محقًا وغرضه صحيحًا. فإن كان مبطلًا وأراد تغليط السامع لم يكن جداله حسنًا ويسمى دليله مغالظة. هكذا ينبغي أن يتصوّر تفسير هذه الآية فإن كلام المفسرين الظاهريين فيه غير مضبوط، وجوّز في الكشاف أن يريد القرآن أي ادعهم بالكتاب الذي هو حكمة وموعظة حسنة وجادلهم بأحسن طرق المجادلة من الرفق واللين من غير فظاظة ولا تعنيف.
ولما حث على الدعوة بالطرق المذكورة بين أن الهداية والرشد ليس إلى النبي وإنما ذلك إلى الله تعالى فقال: {إن ربك هو أعلم} الآية. أي هو العالم بضلال النفوس واهتدائها وكدورتها وبمن جعل الدعوة سببًا لسعادتها أو واسطة لشقائها. ثم إن الدعوة تتضمن تكليف المدعوّين بالرجوع عن الدين المألوف، والفطام منه شديد وربما تنجر المقاولة إلى المقاتلة، فحينئذ أمر الداعي وأتباعه برعاية العدل والإنصاف في حال القتال قائلًا {وإن عاقبتم} أي إن رغبتم في استيفاء القصاص إن وقع قتل فاقنعوا بالمثل ولا تزيدوا عليه، والآية عامة وقد يخصصها رواة أسباب النزول بقصة حمزة قالوا: إن المشركون مثلوا بالمسلمين يوم أحد بقروا بطونهم وقطعوا مذاكيرهم، ما تركوا أحدًا غير ممثول به إلا حنظلة بن الراهب. فوقف رسول الله صلى الله عليه وسلم على حمزة وقد مثل به، وروي فرآه مبقور البطن فقال: أما والذي أحلف به إن أظفرني الله بهم لأمثلن بسبعين مكانك فنزلت فكفر عن يمينه وكف عما أراده. قاله ابن عباس في رواية عطاء وأبيّ بن كعب، ومن هذا ذهبوا إلى أن خواتيم سورة النحل مدنية، ولا خلاف في تحريم المثلة، وقد وردت الأخبار بالنهي عنها حتى بالكلب العقور، وقيل: نزلت حين كان المسلمون قد أمروا بالقتال مع من يقاتلهم ولا يبدأوا بالقتال فهو كقوله: {وقاتلوا في سبيل الذين يقاتلونكم} [البقرة: 190]. أمر الله تعالى أن يعاقبوا بمثل ما يصيبهم من العقوبة ولا يزيدوا، وقال مجاهد والنخعي وابن سيرين: إنه نهى المظلوم عن استيفاء الزيادة من الظالم، وفي قوله: {إن عاقبتم} رمز إلى أن الأولى له أن لا يفعل كقول الطبيب للمريض: إن كنت تأكل الفاكهة فكل التفاح.
ثم انتقل من التعريض إلى بعض التصريح قائلًا. {ولئن صبرتم لهو خير} أي صبركم خير لكم. فوضع المظهر موضع المضمر ثناء من الله عليهم أو وصفًا لهم بالصفة التي تحصل لهم أو جنس الصبر خير {للصابرين} من جنسهم. ثم صرح كل التصريح فقال: {واصبر} ثم ذكر ما يفيد سهولة الصبر على النفس فقال: {وما صبرك إلا بالله} أي بتوفيقه وتثبيته وربطه على قلبه وهذا سبب كلي مفيد للصبر، وأما السبب الجزئي القريب فذلك قوله: {ولا تحزن عليهم ولا تك} وذلك أن إقدام الإنسان على الانتقام لا يكون إلا عند هيجان الغضب وإنه لا يهيج إلا عند فوات نفع، وأشار إليه بقوله: {ولا تحزن عليهم} قيل: أي على قتلى أحد، وقيل: على الكافرين كقوله: {فلا تأس على القوم الكافرين} [المائدة: 68]، وإلا حين توقع مكروه في المستقبل وأشار إلى ذلك بقوله: {ولا تك في ضيق} من قرأ بكسر الضاد فظاهر وهو من الكلام المقلوب الذي يشجع عليه أمن الإلباس، لأن الضيق وصف فهو يكون في الإنسان ولا يكون الإنسان فيه، وفيه لطيفة أخرى وهي أن الضيق إذا عظم وقوي صار كالشيء المحيط به من جميع الجوانب، ومن قرأ بفتحها فإما على أنه مصدر أيضًا أو على أنه مخفف ضيق فمعناه في أمر ضيق، وإنما لم يقل ولا تكن بالنون كما في آخر النمل موافقة لما قبله {ولم يك من المشركين} ولأن الحزن هاهنا أكثر بناء على أنها وردت في قتل حمزة فبولغ بالحذف في النهي عن الحزن.
ثم ختم السورة بآية جامعة لجميع المأمورات والمنهيات فقال: {إن الله مع الذين اتقوا} المعاصي كلها {والذين هم محسنون} في الطاعات بأن يعبدوا الله مخلصين عن شوائب الرياء: وقيل: {إن الله مع الذين اتقوا} استيفاء الزيادة {والذين هم محسنون} في ترك أصل الانتقام. فإن أردت أن أكون معك بالنصر والتأييد فكن من المتقين ومن المحسنين، وفيه أن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر يجب أن يكون بالرفق واللين مرتبة مرتبة، وقيل: الذين اتقوا إشارة إلى التعظيم لأمر الله، والذين هم محسنون إشارة إلى الشفقة على خلق الله ومنه قال بعض المشايخ: كمال الطريق صدق مع الحق وخلق مع الخلق، واحتضر هرم بن حبان فقيل له: أوص. فقال: إنما الوصية من المال ولا مال لي أوصيكم بخواتيم سورة النحل. اهـ.

.قال ابن جزي:

{يَوْمَ تَأْتِي}.
يحتمل أن يتعلق بغفور رحيم أو يمحذوف تقديره اذكر وهذا أظهر {كُلُّ نَفْسٍ} النفس هنا بمعنى الجملة كقولك: إنسان، والنفس في قوله عن نفسها بمعنى الذات المعينة التي نقيضها الغير أي تجادل عن ذاتها لا عن غيرها كقولك: جاء نفسه وعينه {تجادل عَن نَّفْسِهَا} أي تحتج وتعتذر، فإن قيل: كيف الجمع بين هذا وبين قوله: {هذا يَوْمُ لاَ يَنطِقُونَ وَلاَ يُؤْذَنُ لَهُمْ فَيَعْتَذِرُونَ} [المرسلات: 35-36]. فالجواب أن الحال مختلف باختلاف المواطن والأشخاص.
{وَضَرَبَ الله مَثَلًا قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُّطْمَئِنَّةً} الآية، قيل: إن القرية المذكورة مكة كانت بهذه الصفة التي ذكرها الله {فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ الله} يعني بنبوة محمد صلى الله عليه وسلم، فأصابهم الجدب والخوف من غزو النبي صلى الله عليه وسلم، وقيل: إنما قصد قرية غير معينة أصابها ذلك فضرب الله بها مثلًا لمكة، وهذا أظهر، لأن المراد وعظ أهل مكة بما جرى لغيرهم، والضمير في قوله فكفرت وأذاقها: يراد بها أهل القرية بدليل قوله بما كانوا يصنعون {فأذاقها الله لِبَاسَ الجوع والخوف} الإذاقة هنا واللبس مستعاران، أما الإذاقة فقد كثر استعمالها في البلايا، حتى صارت كالحقيقة، وأما اللباس فاستعير للجوع والخوف لاشتمالهما على اللباس ومباشرتهما له كمباشرة الثوب.
{وَلَقَدْ جَاءهُمْ رَسُولٌ مِّنْهُمْ} إن المراد بالقرية مكة، فالرسول هنا محمد صلى الله عليه وسلم والعذاب الذي أخذهم القحط وغيره، وإن كانت القرية غير معينة، فالرسول من المتقدمين كهود وشعيب وغيرهما، والعذاب ما أصابهم من الهلاك {فَكُلُواْ} وما بعده مذكور في البقرة {وَلاَ تَقُولُواْ لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الكذب هذا حَلاَلٌ وهذا حَرَامٌ} هذه الآية مخاطبة للعرب الذين احلوا أشياء وحرموا أشياء كالبحيرة وغيرها مما ذكر في سورة المائدة والنعام، ثم يدخل فيها كل من قال: بدل من الكذب وما في قوله بما تصف موصولة ويجز أن ينتصب الكذب بقوله تصف وتكون ما على هذا مصدرية ويكون قوله هذا حلال وهذا حرام معمول لا تقولوا {مَتَاعٌ قَلِيلٌ} يعني عيشهم في الدنيا أو انتفاعهم بما فعلوه من التحليل والتحريم.
{وعلى الذين هَادُواْ حَرَّمْنَا مَا قَصَصْنَا عَلَيْكَ مِن قَبْلُ} يعني قوله في [الأنعام: 146]. حرمنا كل ذي ظفر إلى آخر الآية، فذكر ما حرم على المسلمين وما حرم على اليهود، ليعلم أن تحريم ما عدا ذلك افتراء على الله كما فعلت العرب {ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ عَمِلُواْ السواء بجهالة} هذه الآية تأنيس لجميع الناس وفتح باب التوبة.
{إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً} فيه وجهان: أحدهما أنه كان وحده أمة من الأمم بكماله وجمعه لصفات الخير كقول الشاعر:
فليس على الله بمستنكر ** أن يجمع العالم في واحد

والآخر: أن يكون أمة بمعنى إمام كقوله: {إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا} [البقرة: 124]. قال ابن مسعود: والأمة معلم الناس الخير، وقد ذكر معنى القانت والحنيف {وَآتَيْنَاهُ فِي الدنيا حَسَنَةً} يعني لسان الصدق، وأن جميع الأمم متفقون عليه، وقيل: يعني المال والأولاد {لَمِنَ الصالحين} أي من أهل الجنة {وَلَمْ يَكُ مِنَ المشركين} نفى عنه الشرك لقصد الرد على المشركين من العرب الذين كانوا ينتمون إليه.
{إِنَّمَا جُعِلَ السبت على الذين اختلفوا فِيهِ} أمر موسى بني إسرائيل أن يجعلوا يوم الجمعة مختصًا للعبادة فرضي بعضهم بذلك، وقال أكثرهم: بل يكون يوم السبت، فألزمهم الله يوم السبت، فاختلافهم فيه هو ما ذكر والسبت على هذا هو اليوم، وقيل اختلافهم فيه: هو أن منهم من حرم الصيد فيه، ومنهم من أحله، فعاقبهم الله بالمسخ قردة، فالمعنى: إنما جعل وبال السبت على الذين اختلفوا فيه، والسبت على هذا مصدر من سبت إذا عظم يوم السبت، قاله الزمخشري، وتقتضي الآية أن السبت لم يكن من ملة إبراهيم عليه السلام {ادع إلى سَبِيلِ رَبِّكَ بالحكمة والموعظة الحسنة} المراد بالسبيل هنا: الإسلام، والحكمة هي الكلام الذي يظهر صوابه، والموعظة هي الترغيب والترهيب، والجدال هو الردّ على المخالف، وهذه الأشياء الثلاثة يسميها أهل العلوم العقلية بالبرهان والخطابة والجدال، وهذا الآية تقتضي مهادنة نسخت بالسيف، وقيل: إن الدعاء إلى الله بهذه الطريقة من التلطف والرفق غير منسوخ، وإنما السيف لمن لا تنفعه هذه الملاطفة من الكفار: وأما العصاة فهي في حقهم محكمة إلى يوم القيامة باتفاق.
{وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُواْ بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ} المعنى إن صنع بكم صنع سوء فافعلوا مثله ولا تزيدوا عليه، والعقوبة في الحقيقة إنما هي الثانية، وسميت الأولى عقوبة لمشاكلة اللفظ، ويحتمل أن يكون عاقبتم بمعنى أصبتم عقبى: كقوله في الممتحنة فعاقبتم بمعنى غنمتم فيكون في الكلام تجنيس، وقال الجمهور: إن الآية نزلت في شأن حمزة بن عبد المطلب لما بقر المشركون بطنه يوم أحد، قال النبي صلى الله عليه وسلم: «والله لئن أظفرني الله بهم لأمثلن بسبعين منهم»، فنزلت الآية فكفّر النبي صلى الله عليه وسلم عن يمينه وترك ما أراد من المثلة ولا خلاف أن المثلة حرام، وقد وردت الأحاديث بذلك؛ ويقتضي ذلك أنها مدنية، ويحتمل أن تكون الآية عامة، ويكون ذكرهم لحمزة على وجه المثال، وتكون على هذا مكية كسائر السورة؛ واختلف العلماء فيمن ظلمه رجل في مال ثم ائتمن الظالم المظلوم على مال هل يجوز له خيانته في القدر الذي ظلمه، فأجاز ذلك قوم لظاهر الآية، ومنعه مالك لقوله صلى الله عليه وسلم: «أدّ الأمانة إلى من إئتمنك، ولا تخن من خانك» {وَلَئِن صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ للصابرين} هذا ندب إلى الصبر وترك عقوبة من أساء إليك فإن العقوبة مباحة، وتركها أفضل، والضمير راجع للصبر، ويحتمل أن يريد بالصابرين هنا العموم، أو يراد به المخاطبون كأنه قال: خير لكم.
{واصبر وَمَا صَبْرُكَ إِلاَّ بالله} هذا عزم على النبي صلى الله عليه وسلم في خاصته على الصبر، ويروى أنه قال لأصحابه أما أنا فأصبر كما أمرت، فماذا تصنعون؟ قالوا نصبر كما ندبنا ثم أخبره أنه لا يصبر إلا بمعونة الله؛ وقد قيل إن ما في هذه الآية من الأمر بالصبر منسوخ بالسيف، وهذا إن كان الصبر يراد به ترك القتال، وأما إن كان الصبر يراد به ترك المثلة التي فعل مثلها بحمزة فذلك غير منسوخ {وَلاَ تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ} أي لا تتاسف لكفرهم {وَلاَ تَكُ فِي ضَيْقٍ مِّمَّا يَمْكُرُونَ} أي لا يضق صدرك بمكرهم، والضيق بفتح الضاد تخفيف من ضيق كميت وميت، وقرئ بالكسر وهو مصدر، ويجوز أن يكون الضيق والضيق مصدران {إِنَّ الله مَعَ الذين اتقوا} يريد أنه معهم بمعونته ونصره {والذين هُم مُّحْسِنُونَ} الإحسان أن تعبد الله كأنك تراه وهذا هو الأظهر، لأنه رتبه فوق التقوى. اهـ.